فصل: (مسألة:الصد عن الحج وأحكام الصادين)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:أركان الحج ومسنوناته وهيئاته]

ذكر الشيخ أبو حامد: أن الحج يشتمل على أركان ومسنونات وهيئات.
فالأركان: أربعة: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة. فمن ترك ركنا منها.. لم يحل من إحرامه ولم يجبر بالدم.
وأما المسنونات ـ وسماها صاحب "المهذب" الشيخ أبو إسحاق: الواجبات ـ فهي: ما لا يؤثر تركها في التحلل، وينجبر بالدم. وهي ستة أشياء:
فشيئان لا خلاف فيهما، وهما: الإحرام من الميقات، والرمي.
وأربعة أشياء للشافعي في كل واحد منها قولان، وهي: الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس، والمبيت بالمزدلفة، والمبيت بمنى ليالي الرمي، وطواف الوداع.
وأما الهيئات ـ وسماها الشيخ أبو إسحاق: المسنونات ـ وهي: طواف القدوم، والرمل، والاضطباع، واستلام الركن، وتقبيله، والسعي في موضع السعي، والمشي في موضع المشي، والخطب، والأذكار. فإذا تركها أو ترك شيئا منها... لم يؤثر تركها بالتحلل، ولم يجب على من تركها دم.

.[مسألة:دخول الكعبة وفضيلة المسجد الحرام على بقية المساجد]

قال الشافعي: (وأستحب دخول البيت لكل أحد)؛ لما روى ابن عباس: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من دخل البيت.. دخل في حسنة، وخرج من سيئة، وخرج مغفورا له». ويستحب أن يصلي فيه؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف
صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة صلاة في مسجدي».

.[فرع: فضيلة الشرب من ماء زمزم ونبيذ السقاية]

ويستحب أن يشرب من ماء زمزم ويتضلع منه؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ماء زمزم لما شرب له»
وروى عطاء: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أفاض. نزع هو لنفسه بدلو مرتين من ماء بئر زمزم، ولم ينزع معه أحد، فشرب منه، ثم أفرغ باقي الدلو في البئر».
قال ابن الصباغ: ويستحب أن يشرب من نبيذ السقاية؛ لما روي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى السقاية ليشرب منها، فقال له العباس: إنه نبيذ، قد خاضت فيه الأيدي، ووقع فيه الذباب، ولنا في البيت نبيذ صاف، فقال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هات " فشرب منه».
ولا يشرب من النبيذ إلا ما لم يكن مسكرا.

.[مسألة:الخروج من مكة]

وإذا خرج من مكة.. استحب له أن يخرج من أسفلها؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل من أعلاها، وخرج من أسفلها».
قال أبو عبد الله الزبيري: ويخرج وبصره يتبع البيت حتى يكون آخر عهده به.

.[فرع: أفضلية مكة على المدينة]

مكة ـ عندنا ـ أفضل من المدينة.
وقال مالك: (المدينة أفضل من مكة)؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المدينة خير البقاع».
ولقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المدينة خير من مكة».
دليلنا: ما روي: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف
صلاة في غيره، وصلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة» فدل على: أن مكة أفضل.
وروي «عن عبد الله بن عدي قال: سمعت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول: «إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليه، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت».
وأما قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المدينة خير البقاع» فأراد بعد مكة، بدليل ما ذكرناه.
وأما قوله: «المدينة خير من مكة» أراد أن أهل المدينة خير من أهل مكة؛ لأنهم آووه ونصروه، وأهل مكة قاتلوه وأخرجوه، ولهذا قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل البلاد فتحت بالسيف إلا المدينة، فإنها فتحت بـ: لا إله إلا الله»، وروي بـ: «القرآن».

.[مسألة:زيارة القبر الشريف]

ويستحب زيارة قبر رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما روي عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال «من حج ولم يزرني.. فقد جفاني» ذكره الشيخ أبو حامد.
وروى ابن عمر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من زار قبري.. وجبت له الجنة».
وروي عنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من زارني بعد وفاتي.. فكأنما زارني في حياتي».
وروي عنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال. «من زار قبري.. وجبت له شفاعتي»
وحكى العتبي قال: كنت جالسا عند قبر رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاء أعرابي فسلم على
النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: يا رسول الله سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].
وقد جئتك مستغفرا من ذنبي، مستشفعا بك إلى ربي، وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ** فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ** فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيناي، فنمت. فرأيت رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوم يقول: يا عتبي، الحق الأعرابي وبشره بأن الله قد غفر له.
ويستحب لمن زار قبر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن يصلي في مسجده: لما ذكرناه من الخبر. وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل

.[باب الفوات والإحصار]

ومن أحرم بالحج فلم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر.. فقد فاته الحج، وعليه أن يتحلل بعمل عمرة، وهو: الطواف والسعي والحلق، ولا ينقلب ذلك إلى عمرة، ويسقط عنه توابع الحج، وهو: المبيت والرمي، ويجب عليه القضاء وهدي.
وبه قال أبو حنيفة إلا في الفدية، فإنه قال: (لا فدية عليه).
وقال أبو يوسف وأحمد: (ينقلب إحرامه عمرة، فيطوف ويسعى ويحلق، ويجزئه عن عمرة الإسلام، ويقضي الحج من قابل).
وعن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: كقولنا، والثانية: (لا قضاء عليه كالمحصر)، والثالثة: (يبقى على إحرامه إلى العام القابل).
وقال المزني: يجب عليه أن يأتي بما بقي من أفعال الحج: من المبيت، والرمي.
دليلنا: ما روي عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس: أنهم قالوا: (من فاته الحج.. تحلل بالطواف والسعي، وعليه القضاء والهدي من قابل) ولا مخالف لهم، ولأن الفوات سبب يوجب قضاء الحج، فأوجب الهدي، كالإفساد.
وعلى أبي يوسف: أن إحرامه قد انعقد بنسك، فلم ينقلب إلى نسك آخر بتفريط كان منه، كما لو أفسد الحج.
وأما الدليل ـ على المزني ـ: فإن المبيت والرمي من توابع الوقوف، وقد سقط الوقوف، فسقطت توابعه.
وإن أحرم بالعمرة فقط.. فإنه لا يتصور فواتها؛ لأن الزمان كله وقت لها.
وإن كان قارنا بين الحج والعمرة ففاته الوقوف.. فإن العمرة تفوت بفوات الحج؛ لأن ترتيب العمرة يسقط، ويكون حكمها تابعا لحكم الحج. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وحكى المسعودي [في "الإبانة" ق \ 213] قولين:
أحدهما: هذا، وهو المشهور؛ لأنه إحرام واحد فلا يتبعض.
والثاني: لا تفوت العمرة؛ لأنه لا وقت لها.
فإذا قلنا بالمشهور.. تحلل بعمل عمرة، وعليه دم للقران ودم للفوات، وعليه أن يقضي قارنا، ثم يخرج شاة ثالثة للقران.
قال الشافعي: (فإن قضاه مفردا.. لم يكن له).
قال الشيخ أبو حامد: أراد: أنه ليس له إسقاط الدم؛ لأن بالفوات قد وجب عليه أن يقضي بالقران، والقران يقتضي وجوب الدم، فإذا أفرد الحج والعمرة.. أجزأه ذلك؛ لأنه أكمل من القران، ولكن لا يسقط عنه دم القران.

.[فرع: وجوب الدم على المكي وغيره في الفوات]

المكي وغير المكي سواء في الفوات، وفي وجوب الدم لأجله، بخلاف دم التمتع؛ لأن الفوات يحصل من المكي كما يحصل من غيره، ودم التمتع يجب بترك الميقات، والمكي لا يترك الميقات؛ لأن ميقاته بلده.

.[فرع: الإحرام بالعمرة بأشهر الحج وفواته عليه]

فإذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج، فتحلل منها، ثم أحرم بالحج ففاته.. فإن عليه قضاء الحج دون العمرة؛ لأن الحج فات دون العمرة، وعليه دم للتمتع، ودم للفوات.

.[فرع: قضاء الحج الفائت وإخراج الهدي]

وهل يجب عليه القضاء على الفور، أو يجوز تأخيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجب على الفور، ويجوز له تأخيره؛ لأن أصل وجوب الحج يجوز له تأخيره، فكذلك قضاؤه.
والثاني: يجب قضاؤه على الفور؛ لما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (عليه القضاء من قابل). ولأن القضاء بدل عما لزمه أداؤه على الفور بالدخول، بخلاف أصل الحج الواجب.
وأما الهدي: فهل يخرجه في سنة الفوات، أو في سنة القضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يخرجه في سنة القضاء؛ لما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (عليه القضاء من قابل والهدي). ولأن القضاء والمقضي في معنى النسك الواحد؛ لأن الفرض يسقط عنه بالقضاء، فجرى مجرى التمتع، والمتمتع إنما يجب عليه الدم إذا أحرم بالنسك الثاني، وهو الحج.
والثاني: أنه يخرجه في سنة الفوات؛ لأنه سبب وجوبه.
فإذا قلنا: إنه يخرجه في سنة الفوات.. فهو وقت وجوبه.
وإن قلنا: إنه يخرجه في سنة القضاء.. فهل وقت وجوبه عند القضاء، أو عند الفوات وإنما يؤخر إخراجه إلى وقت القضاء؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أنه يجب عند القضاء؛ لأنه لو وجب قبل ذلك.. لجاز إخراجه.
والثاني: أن وقت وجوبه عند الفوات؛ لأنه وقت سببه.

.[فرع: الوقوف في عاشر ذي الحجة أو الثامن خطأ]

إذا أخطأ الناس فوقفوا يوم العاشر من ذي الحجة، أو يوم الثامن منه.. أجزأهم ذلك، ولم يجب عليهم القضاء؛ لقول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حجكم يوم تحجون».
ولأنه لا يؤمن مثل ذلك في القضاء. ولأن في إيجاب القضاء مشقة عظيمة وإبطالا للسفر الطويل والمال العظيم، هكذا قال عامة أصحابنا.
وذكر ابن الصباغ في موضع من " شامله ": أنهم إذا وقفوا يوم التروية.. لم يجزهم؛ لأن هذا لا يقع فيه الخطأ؛ لأن نسيان العدد لا يتصور من العدد الكثير، فأما العدد القليل: فلا يعذرون في ذلك؛ لأنهم مفرطون، ويأمنون مثل ذلك في القضاء.
قلت: ولعل ابن الصباغ أراد: إذا بان لهم أنهم وقفوا يوم الثامن قبل فوات يوم التاسع وليلة النحر. فأما إذا لم يبن لهم ذلك إلا بعد فوات وقت الوقوف.. فيجزئهم الوقوف في اليوم الثامن، لما ذكرناه في الوقوف يوم العاشر.

.[فرع: شهادة الرؤية المتأخرة]

وإن شهد شاهدان عشية عرفة برؤية الهلال، ولم يبق من النهار والليل ما يمكن الجماعة إتيان عرفة قال ابن الصباغ: وقفوا من الغد، كما قال الشافعي: (إذا شهد شاهدان برؤية الهلال ليلة الحادي عشر، أو بعد الزوال يوم العاشر في زمان لا يمكن فيه اجتماع الناس فإنهم يخرجون من الغد، ويصلون العيد، ويكون ذلك أداء للصلاة لا قضاء).

.[فرع: المشاهد يعمل بعلمه]

وإن شهد برؤية الهلال واحد أو اثنان، فرد الحاكم شهادتهم فإن الشهود يقفون يوم التاسع على حكم رؤيتهم، ويقف الناس يوم العاشر عندهما، فإن وقف الشاهدان مع الناس يوم العاشر ولم يقفا يوم التاسع عندهما لم يجزهما ذلك.
وقال محمد بن الحسن: لا يجزئهما إلا إن وقفا مع الناس يوم العاشر، وإن وقفا يوم التاسع وحدهما لم يجزهما.
دليلنا: أنهما يتيقنان أن هذا يوم عرفة، فلزمهما الوقوف فيه، كما لو قبل الحاكم شهادتهما.

.[مسألة:الإحصار]

ومن أحرم بالحج وأحصره عدو من المشركين، ومنعوه عن النفوذ في طريقه، ولم يكن له طريق سواه جاز له أن يتحلل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية [البقرة: 196].
وهذه الآية نزلت في شأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لـ: أنهم خرجوا من المدينة سنة ست، وأحرموا بعمرة، ونزلوا الحديبية؛ ليدخلوا مكة فصدتهم قريش عن ذلك، ومنعتهم الدخول، ثم خرج إليهم سهيل بن عمرو فصالحهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على: أن يرجع ويعود من قابل، فأنزل الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. فتحلل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ورجعوا، ثم أتوا من قابل، وقضوا عمرتهم، وإن كان المانع له عدوا من المسلمين جاز له أن يتحلل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية.
فعم ولم يخص، فالآية وإن كانت واردة على سبب إلا أنها مستقلة بالعموم.
وروي: أن ابن عمر أراد أن يخرج إلى الحج في سنة ابن الزبير، فقيل له: إن صددت فقال: (إن صددت عن البيت صنعت كما صنعنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية».
وإن كان لهم طريق غير هذا الذي منعوا منه، فإن كان مثل طريقهم الذي صدوا عنه لم يكن لهم التحلل؛ لأنهم قادرون على الوصول. وإن كان أطول من طريقهم، فإن لم تكن معهم نفقة تكفيهم لذلك الطريق كان لهم التحلل؛ لأنهم مصدودون عن البيت بغير حق؛ إذ قطع الطريق بغير نفقة لا يمكن، فهو كما لو لم يجدوا طريقا غير التي صدوا عنها. وإن كان معهم نفقة تكفيهم لطريقهم الآخر لم يجز لهم التحلل، ولزمهم سلوك الطريق الآخر، سواء علموا أنهم إذا سلكوا الطريق الآخر فاتهم الحج أو لم يفتهم؛ لأن علة جواز التحلل الحصر، لا خوف الفوات، ألا ترى أن من أحرم بالحج في يوم عرفة بالجند يعلم أنه لا يمكنه الوقوف بعرفة؟ ومع هذا فلا يجوز له التحلل لأجله. فإن سلك الطريق البعيد فأدرك الحج فلا كلام، وإن فاته الحج تحلل بعمل عمرة، وهل يلزمه القضاء؟ فيه قولان:
أحدهما: عليه القضاء؛ لأنه فاته الحج فلزمه القضاء، كما لو فاته بالنسيان، أو أخطأ الطريق، أو أخطأ العدد.
والثاني: لا يلزمه القضاء؛ لأنه غير مفرط في الفوات، فهو كما لو تحلل بالحصر قبل الفوات.

.[مسألة:الصد عن الحج وأحكام الصادين]

فإن كان العدو الذي صدهم مسلمين فالأولى أن لا يقاتلوهم، وسواء كان الحاج أقوى أو الصاد لهم؛ لأن التحلل أهون من قتال المسلمين وجرحهم، فإن بذلوا لهم تخلية الطريق بجعل لم يجب عليهم بذل الجعل، وجاز لهم التحلل، سواء كان ما سألوه قليلا أو كثيرا؛ لأنا لو أوجبنا دفع القليل لأوجبنا دفع الكثير إذا كان سببهما واحدا. فإن بذلوا لهم الجعل جاز ولم يكره؛ لأنه لا صغار على المسلمين.
وإن كان العدو الذي صدهم مشركين فذكر المسعودي [في "الإبانة" ق \ 211] إن كان بإزاء كل مسلم مشركان أو أقل لم يجز لهم التحلل، وإن كانوا أكثر جاز لهم التحلل.
وقال البغداديون من أصحابنا: لا يجب عليهم قتالهم بحال؛ لأن قتال المشركين لا يجب على المسلمين إلا إذا بدؤوا بالقتال، أو استنفرهم أهل الثغور إلى قتالهم، وهؤلاء لم يبدؤوا بقتال، وإنما منعوا الطريق فقط. فإن قاتلوهم جاز، وهل الأولى أن يقاتلوهم، أو يتحللوا؟ ينظر فيه: فإن كان في المسلمين قوة، وفي المشركين الصادين لهم ضعف فالأولى أن يقاتلوهم؛ ليجمعوا بين نصرة الإسلام والتوصل إلى قضاء نسكهم، وإن كان في المشركين قوة وفي المسلمين ضعف فالأولى أن لا يقاتلوهم؛ لئلا يلحق الإسلام والمسلمين وهن بغلبة الكفار. وإن بذلوا لهم تخلية الطريق بجعل كره لهم دفعه إليهم؛ لأن في ذلك إجراء صغار على الإسلام. وإن بذلوا لهم الجعل جاز.
وإن بذلوا لهم تخلية الطريق بعد المنع، فإن كانوا واثقين بعقدهم غير خائفين من غدرهم لم يجز لهم التحلل؛ لأنهم غير مصدودين. وإن كانوا خائفين من غدرهم جاز لهم التحلل.
إذا ثبت أن لهم التحلل، فإن كان الوقت واسعا قال الشافعي: (أحببت لهم أن لا يتحللوا، وينتظروا اليومين والثلاث؛ لأنه ربما زال الحصر وانصرف العدو).
فإن انتظروا ولم ينصرف العدو، أو كان الوقت ضيقا يخشى فيه فوات الحج قال الشافعي: (أحببت له أن يتحلل لئلا يفوته الحج).
فإن تحلل من إحرامه لم يخل: إما أن ينصرف العدو، أو لا ينصرف. فإن لم ينصرف العدو رجع المصدود. وإن انصرف العدو، فإن كان الوقت واسعا بحيث يمكنه أن يجدد الإحرام ويمضي ويدرك الحج فقد استقر وجوب الحج عليه؛ لأنه قد تمكن منه، لكنه بالخيار: إن شاء حج في هذه السنة، وإن شاء أخر وحج في سنة أخرى؛ لأن الحج - عندنا - على التراخي. وإن كان الوقت ضيقا بحيث لا يمكنه أن يلحق الحج سقط عنه الوجوب في هذه السنة.
وإن لم يتحلل حتى فاته الحج وجب عليه القضاء بالفوات، فإن كان قد زال العذر لزمه الوصول إلى مكة، ويتحلل بعمل عمرة، وكان عليه هدي للفوات. وإن لم يزل العدو عن طريقه كان له أن يتحلل، ووجب عليه القضاء وهدي للتحلل وهدي للفوات.

.[مسألة:إحصار المحرم بعمرة]

وإن أحرم بالعمرة وأحصر جاز له التحلل.
وحكي عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له التحلل؛ لأنه لا يخاف فوتها).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
ولم يفرق بين الحج والعمرة، ولـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا محرمين بالعمرة، فلما أحصروا نزلت هذه الآية بشأنهم، فتحللوا). ولأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام ربما طال الحصر زمانا، فيكون عليه مشقة في البقاء على الإحرام، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لم أبعث باليهودية، وبالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة».
وقوله: (لأنه لا يخشى فوتها) لا يفيده، ألا ترى أن من أحرم بالحج في أول أشهر الحج، ثم أحصر يجوز له التحلل وإن كان لا يخاف الفوات حال تحلله.

.[فرع: إحاطة العدو بالمحرم]

فإن أحرم وأحاط به العدو من كل جهة، حتى لا يمكنه الخروج عن مكانه فهل يجوز له التحلل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له؛ لأنه لا يستفيد بالتحلل شيئا.
والثاني: يجوز له التحلل؛ لأنه يستفيد بذلك بأن ينهزم إلى ناحية بلده، فيكون متخلصا من الإحرام.

.[مسألة:قضاء الحج بسبب الإحصارالعام أو الخاص]

وإذا أحرم فصد عن الحرم فتحلل، فإن كان الحصر عاما فهل يجب عليه القضاء؟ ينظر فيه:
فإن كان في حج قد تقدم وجوبه عليهم فهو باق في ذمتهم إلى أن يأتوا به، وإن كان لم يتقدم وجوبه لم يجب عليهم القضاء؛ لأجل التحلل من الحصر. وبه قال من الصحابة: ابن عباس وابن عمر، ومن الفقهاء: مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليهم القضاء، سواء كان الحج تطوعا أو واجبا).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية [البقرة: 196].
فاقتضت الآية: أن هذا جميع موجب الإحصار، ولو كان لهذا موجب آخر وهو القضاء لبينه، ولـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر وأصحابه وتحللوا كان معه ألف وأربعمائة رجل، فلما كان في العام القابل عاد بنفر يسير، ولم يأمر من تخلف عنه بالقضاء). ولو كان القضاء واجبا لأمرهم به. فإن قالوا: فقد أعاد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاعتمار في العام القابل، وسميت عمرة القضاء.
قلنا: فعله لها في السنة الثانية لا يدل أنها قضاء عما تحلل عنها في الأولى، بل يجوز؛ لأن الوجوب كان قد استقر عليه، فأدى ما وجب عليه، بدليل: أنه لم يأمر جميع من كان تحلل معه في العام الأول بالقضاء. وأما تسميتها عمرة القضاء: فإن هذه التسمية من أهل النقل، ولا احتجاج بقولهم، ويجوز أن تكون سميت عمرة القضاء؛ لأنه كان قضاء سهيل بن عمرو على العود من قابل، فسميت عمرة القضاء والقضية، لا لأنها قضاء عما تحللوا عنه.
وإن كان الحصر خاصا، بأن حبسه القاضي بدين عليه، فإن كان يقدر على قضائه لم يجز له التحلل، فإن تحلل لم يصح. وإن أقام على إحرامه حتى فاته الحج لزمه القضاء قولا واحدا؛ لأنه مفرط بذلك. وإن حبسه السلطان ظلما، أو حبسه القاضي بدين لا يقدر عليه جاز له التحلل، فإذا تحلل فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه القضاء، كما لا يلزمه في الحصر العام.
والثاني: يلزمه؛ لأنه تحلل من الحج قبل وقته بسبب يختص به، فهو كما لو ضل الطريق ففاته الحج.